الأحد، 18 نوفمبر 2018

المحور الثالث : لماذا التفلسف ؟ 

تقديم : 

ما الذي يدفعنا إلى التفلسف؟ لربما لأن الأجوبة النهائية لا تدفعنا إلى طرح المزيد من الأسئلة ، و التالي ، لا تترك فينا أثرا للتعجب و الاندهاش . أو ربما لأن هذا الوجود و ما يحويه من ألغاز و ما يكتنفه من غموض يجعلنا لا نكتفي بتلك الأجوبة الجاهزة أو النهائية ؛ بل تدفعنا إلى اقتحام المجهول و استكشاف خباياه و أسراره . أو لعلنا كفلاسفة لا نكتفي بما يقدم إلينا من معارف و يقينيات مطلقة و تابثة ، بل طريقتنا في التفكير التي نتغياها و نختارها تختلف عن الطرق الأخرى السائدة داخل المجتمع . 

الظاهر أن الإنسان منذ ظهوره على سطح هذه الارض ما انفك يسائل هذا الوجود و يطرح عليه الأسئلة تلو الأسئلة ليملأ ثغرات وجوده و فراغاته بأجوبة ممكنة سرعان ما تنقلب تلك الأجوبة إلى أسئلة جديدة .. وهكذا دواليك ..

فهل فعل التفلسف الذي يصدر الذات المتفلسفة مرتبط بحيرة الحيرة و التعجب و الدهشة أم مرتبط بالعجز عن فهم هذا الوجود و كنهه و مفارقاته و ثنائياته الميتافيزيقية : موت / حياة ، خير / شر ، نور / ظلمة ... ؟ و هل ينحصر فعل التفلسف في الدهشة وحدها ؟ ألا يكون نصيب لتلك المحاولة الاستكشافية التي يقوم بها المتفلسف بحثا عن الحقيقة ؟ ألا يشكل البحثﻻعن الحقيقة امتلاكا لها و التالي الارتكان إلى الأفكار الوثوقية و الانقياد نحو خطابها السهل ؟ بأي معنى يمكن تقبل فكرة أن الشك هو تطويق و تقويض و هدم للفكر الوثوقي و الفكر الساذج ؟ كيف يمكن تأسيس حقيقة بشكل عقلاني ؟ 

أولا : أتعرف فعل التفلسف كدهشة 

موقف أرتور شوبنهاور ( 1860 _ 1788 ) 

يعتبر أرتور شوبنهاور أن للأسئلة الفلسفية أكثر من علاقة بالدهشة كحالة مصحوبة بتوتر ذهني و نفسي و ممزوجة بالقلق....,فهناك فرق بين الذي يعيش مندمجا في الاشياء حيث لا شيء بالنسبة إليه غريب او يثير فيه روح الحيرة و الاستغراب الذي يقوده إلى طرح التساؤلات، و هذا هو حال الناس العاديين ، التي تنحدر مرتبة الإنسان لديهم من حيث استعمال العقل و تقل غرابة الوجود في عيونهم و أبصارهم ، و بين ذاك الفيلسوف الذي يتخد مسافة من العالم حوله.

اهذه المسافة تجعل الفلاسفة يقفون من واقعهم موقف المتامل و المفكر في الأمور المتعلقة بالموت و الألم و بؤس الحياة . فالحياة ليست أبدية أو خالية من الألم ، حتى نجعلها في أعيننا مفهومة من تلقاء نفسها ، بلىهي على خلاف ذلك حياة مليئة بالصراعات و الخوف و البؤس و القلق و الموت . و مصدر دهشتناةبل و ذهولنا نابع من بؤر التوتر التي تتركها فينا تلك الأشياء. و لعل هذا هو مادفع بارسطو الى القول بان " الدهشة هي أم الفلسفة و منبعها الخصب " فما الدهشة الفلسفية ؟ 

الدهشة الفلسفية : 

الدّهشة عامة هي انفعال و رجّة وجدانيّة شديدة و عنيفة، و هي أيضا ذهول أمام شيء خارق للعادة و غير مألوف، إنها حالة نفسية مصحوبة بالتوتر والحيرة وشيء من الألم أحيانا، تحصل للفكر عندما يعجز عن إستيعاب وتمثل ظاهرة أو معطى وتصنيفه ضمن البنيات والمقولات السابقة فينشأ صراع وتحد معرفي داخلي؛

الدهشة الفلسفية: مختلفة عن الدهشة الطبيعية أو العادية من حيث أن هذه الأخيرة تحصل أمام الغريب وغير المألوف، بينما تحصل الأولى أمام المألوف والمعتاد ( مثال تقريبي لدهشة علمية: دهشة نيوتن- مكتشف الجاذبية – من ظاهرة جد مألوفة تتمثل في سقوط التفاحة إلى الأسفل وعدم سقوطها نحو الأعلى !!

كيف تكون الدّهشة، التّي هي تعبير عن الذهول و ذهاب العقل، علامة على بداية التّفكير الفلسفي، الذّي عرف على أنّه بالأساس، ممارسة عقليّة واعية ويقِظة ؟

وقد كان ظهور التفكير الفلسفي مقترنا بالدهشة فهذا أرسطو يقول « إن ما دفع الناس في الأصل وما يدفعهم اليوم الى البحوث الفلسفية الأولى هو الدهشة» ومن هنا كانت « الدهشة هي أم الفلسفة ومنبعها الخصب!» وذلك كما قال آرتور شوبنهاور « لأن الإنسان حيوان ميتافيزيقي، ومما لا شك فيه أنه عند بداية يقظة وعيه، يتصور فهم ذاته أمرا لا يحتاج الى عناء، غير أن ذلك لا يدوم طويلا: فمع اول تفكير يقوم به، تتولد لديه تلك الدهشة التي كانت على نحو ما، أصل الميتافيزيقيا». والمراد بالدهشة هنا ليس فقط الحيرة والتعجب بل هي حالة توتر ذهني ونفسي ممزوجة بالقلق ومفعمة بالاهتمام وأحيانا بالألم والمعاناة. 

وللدهشة علاقة بأكثر من مفهوم مثل: العزلة والغربة والانفصال والانفصام والذهول بل وحتى القطيعة. إلا أن الدهشة الفلسفية غير الدهشة العلمية أو العامية ذلك لأن العالم والعامي معا لا يندهشان إلا أمام الظواهر الغريبة النادرة بغية فهمها ومعرفة أسبابها كما قالت العرب«إذا عرف السبب زال العجب»، أما الفيلسوف فيتجاوزهما ليندهش أمام كل الظواهر بل وحتى أمام أكثر الأشياء والوقائع ألفة واعتيادا مستهدفا تأمل ذاته وعالمه لتكوين صورة واضحة المعالم عنهما

بالرغم من اختلاف أشكال التعبير الفلسفي باختلاف الفلاسفة, فإن الفلسفة تبدأ بالاندهاش
 . والدهشة كما يقول أرسطو هي التي دفعت الناس إلى التفلسف، وكما يذهب إلى ذلك شوبنهاور فالدهشة من الأمور المتعلقة بالم والألم والبؤس في الحياة، كانت هي الدافع الأقوى للتفكير الفلسفي والتفسير الميتافيزيقي للعالم. إن الاندهاش من الظواهر التي يعرفها الوجود, خاصة تلك التي لم يستطيع الإنسان أن يجد لها تفسيرا هي التي جعلته يتساءل، أو بقول هيدغر " إن اندهاش الفكر يعبر عن نفسه بالتساؤل". لكنه تساءل يحتاج إلى أجوبة أكثر إقناعا خاصة إذا ماسلمنا مع شوبنهاور بأن الدهشة الفلسفية تفترض في الفرد درجة أعلى من التعقل، بحيث ينقلب الاندهاش من الوجود والعالم الذي لاينفك يمثل لغزا للإنسان، في الفلسفة إلى مجموعة من الأسئلة المترابطة في ما بينها. وهذا يحيلنا إلى طبيعة السؤال الفلسفي وخصائصه ومميزاته ووظائفه .

صحيح أن كل الناس يتساءلون، لكن السؤال العادي يفترض إجابة بسيطة ونهائية،لكن التساؤل الفلسفي يتميز بالقصدية والشك القبلي في الجواب, كما يهدف إلى هدم الاعتقاد القبلي في امتلاك الجواب أو المعرفة، وهو سؤال ليس منعزلا بل ينتظم داخل تساءل فلسفي متناسق يجعل الجواب ذي طابع دقيق وبرهاني. بحيث يتمظهر هذا الجواب الفلسفي في صيغة خطاب فلسفي ضمن خطابات أخرى متعددة ،لدى فهو يسعى إلى إثبات صدقيته وتماسكه المنطقي. إن السؤال كخاصية أساسية للتفكير الفلسفي هو خاصية ملازمة لتاريخ الفلسفة وموجود منذ بداياتها, إذ كان سقراط يرتكز, في محاوراته أساسا, على طرح الأسئلة وذالك قصد بناء معرفة حقيقية بعيدة عن الوهم والاعتقاد البديهي بامتلاك حقائق الأشياء. وهو اعتقاد غالبا ما يحاربه الفيلسوف وذلك بوضع الحقائق بمحك الفحص والنقد. الشئ الذي أدى إلى أن تنتج الفلسفة إحدى آليات فعل التفلسف " الشك المنهجي" على يد رينيه ديكارت، فالشك يقتضي وضع كل الأشياء موضع تساءل، وذلك قصد الوصول إلى الحقيقة، وبتعبير ديكارت إن أحكاما كثيرة تمنعنا من الوصول للحقيقة وتتشبث بنفوسنا تشبثا يبدوا لنا معه أنه من المحال أن نتخلص منها ما لم نشرع في الشك من جميع الأشياء التي قد نجد فيها أدنى شبهة من قلة اليقين. إن الشك، كتجربة تعيشها الذات تجاه حقائق معينة، يعمل على نقد وفحص أسس هذه الأحكام وإعادة بناءها على أسس أكثر عقلانية، على اعتبار أن العقلانية أساس من أسس فعل التفلسف. فإذا كان الفيلسوف يتفلسف بدافع من اندهاشه, ومن أجل المعرفة الحقة, وبفعل شكه المنهجي، فإنه يتفلسف كذلك انطلاقا من ضرورة إعمال العقل والنقد، أي أن التفلسف يقوم على النظر العقلي الذي يفحص موضوعه من أجل معرفته معرفة حقه. فالعقل هو مصدر معارفنا، أي إقامتها على معيار العقل ولا شيءﻻغير العقل . 

إن الفلسفة تجعل من الوجود الإنساني وقضاياه الميتافيزيقية موضوعا لها، كما تجعل من نتائج المعرفة موضوعا للتأمل. إضافة إلى ذلك فإن للتفكير الفلسفي توابث تجعل منه تفكيرا متميزا عن باقي أنماط التفكير الأخرى. إنه تفكير يعتمد على الدهشة والتساؤل والشك المنهجي, كما أنه تفكير نقدي، و شمولي، وعقلاني ونسقي. والذين يتساءلون عن دور الفلسفة وعن فائدتها اليوم إنما يعلنون عن سر الفلسفة من حيث هي خطاب ضد العنف بجميع أشكاله وضد تشيئ الإنسان أمام التقدم العلمي والتكنولوجي وضد الخطاب الواحد، وبهذا المعنى يمكن أن نردد مع اليفر ليمان "إننا قد نكون على أعتاب مجتمع مابعد الحداثة إلا أننا لسنا على أعتاب مجتمع ما بعد الفلسفة"